31/05/2021 - 14:06

الأنفس المهشّمة

الأنفس المهشّمة

الغرفة الزرقاء | بابلو بيكاسو (1901)

 

تعرّف شافيل على كلامنتين في السكن المشترك الذي يقيمان فيه مع أشخاص آخرين، فقد تقابلا عدّة مرات في طريقهما إلى الحمام ليلًا، إذ يستيقظ كلّ منهما بشكل متكرّر في الليل لإفراغ مثانته، كما لو أنّهما يفرّغان مشاعر الرعب بعد كوابيس مزعجة. 

اعتبرا أنّ هذا التشابه هو أمر كافٍ لبناء تواصل ما... حيث نشأت بينهما صداقة عاديّة في البداية، ثم تطوّرت إلى صيغة من نوع آخر يسمى "صداقة مع فائدة". كلامنتين شابّة جميلة من ريف باريس ذات ملامح صارمة توحي بأنها تعرف تمامًا ما تريده من الناس، وكلّ ما أرادته من شافيل هو الصداقة والجنس بعد أن تعبت من الحبّ، أمّا شافيل، فإنّه كان متأكّدًا من أنّها على الرغم من مظهرها الخارجيّ الصارم، لكنّ داخلها مهشّم بطريقة تذكّره بالدمار الحاصل في مدينته حلب... صيغة الصديق مع فائدة كانت مناسبة له تمامًا، فبعد أن انتقل إلى لندن، أراد أن يحصل على أكبر عدد من الفوائد في حياته، من جنس وعناية صحيّة وأكل سريع، وبهذه الفوائد، كان يعوّض عن حالة السلب التي عاشها لمدّة طويلة في حلب. 

أمام خزانة الملابس، وقفت كلامنتين تختار ما سوف ترتديه لسهرة الليلة، حيث رتّبت عشاءً مع صديقتها وزوجها في مطعم غربيّ لندن. اختارت فستانًا أزرق؛ فهي عادةً ما تقتني الألوان التي تعبّر عن مزاجها وقوّتها. أخبرها شافيل أنّه يعتقد بأن هذا اللون لا يتناسب مع لون شعرها الأشقر وبشرتها البيضاء، حيث تبدو فيه شاحبةً مثل طائر يتألّم لعدم قدرته على الطيران، وأن اختيار الألوان يجب أن يتناسب مع المظهر الخارجيّ فقط للإنسان، دون أن يحمل أيّ تعبير نفسيّ، وكانت إجابتها أنه ربّما من الأفضل له أن يهتمّ بنفسه ويغيّر هذه الملابس الرياضية ويلبس طقمًا أسود رسميًّا. 

أجاب شافيل بأنّه يرتاح أكثر في هذه الملابس، وأنّه لا يرغب في الظهور على شكل إنسان مسؤول أو ذي منصب وأهمية في الحياة، وأنه كائن بروستيّ من حيث الشعور بالذات، فلا يرى أيّ أهميّة لنفسه ولا يملك أيّ قدرة كذلك على الإعلاء من شأن ذاته. مارسيل بروست كاتب كلامنتين المفضل والذي تفخر به كثيرًا؛ فهو من قرية قريبة من مكان مولدها، وهي دائمة الاتّباع لتقليده الصباحيّ بشكل صارم... حيث تبدأ يومها بكوب من الحليب والقهوة مع الكرواسان؛ فهي تعتقد أنّه لا شيء أكثر فرنسيّة من أكل الكرواسان في الصباح، وقد انتقلت هذه العادة لشافيل... أجابته أنّ بروست على الرغم من شعوره الداخليّ، كان يَخرج دائمًا بمظهر أرستقراطيّ، وأنّ عليه فعل الشيء ذاته. بدّل شافيل لباسه واختار طقمًا أسود مع ربطة عنق طويلة، وعندما رأته كلامنتين أخبرته أن يترك قضيبه في المنزل ويكتفي بالبابيون حول عنقه. 

على الرصيف، أثناء انتظارهما للتاكسي، اقترب منهما كلب بولدوغ؛ الكلب صاحب الأرجل القصيرة والرأس الكبيرة، تطلّع إليهما للحظة بنظرةٍ رصينة شبه رسميّة، وشمّ المكان من حولهما سريعًا، ثم ابتعد بخطوات صارمة فيها شيء من الاستعلاء، بدا وكأنه معزوم على عشاء عمل، وكان تعليق شافيل أنّه بربطة العنق هذه، يبدو شبيها بهذا الكلب.

 في السيّارة، طلب شافيل بعض المعلومات عن الأشخاص الذين سيقابلهم على العشاء. أخبرته أنّ صديقتها امرأة جميلة وتتصرّف بمسؤوليّة عالية تِجاه أسرتها ومتمسّكة بزوجها الأخرق بشكلٍ تراه كلامنتين جنونيًّا، وأنّ زوجها شخص شديد الحساسيّة، ويشعر أن كلّ شيء في هذا العالم يحدث بسببه ويدور حول مركز ثقله، إلى درجة أنّه يتصوّر أنّ الهواء الذي يتشكّل أثناء مشيه، له من التأثير ما يُمكّنه من إحداث فيضانات في مكان آخر.

 حكت لها صديقتها أنه في إحدى المرات، خرج ليُحضر الطعام لزوجته وابنيهما، في الطريق دخل إلى محلّ للمقامرة، وبدأ باللعب إلى أن خسر كلّ ما يملكه من مال، وفي تلك اللحظة، استيقظ من غيبوبة الإدمان واختفى عن الأنظار، وعندما وجدته زوجته بعد ستّة أشهر، أخبرها أنّ شعوره كان مريرًا في تلك اللحظة، وبسبب غبائه، كان قد حرمهم من الطعام… وأضاف أن هروبه لم يكن ضروريًّا ولكنّه كان حتميًّا؛ فقد أحسّ برغبة شديدة في الموت، وعندما خرج من المحلّ، أخذ نفسًا عميقًا، تمامًا كالنفس الذي أخذته سيلفيا بلاث بعد أن ملأت الغرفة بالغاز واختفت عن الوجود.

كان تعليق شافيل على القصّة، أنّه بطريقة ما يشبهه، ولكن حساسيّته أوصلته إلى نتيجة مفادها أنّ كل ما يقوم به لا أهميّة له في الحياة، وبذلك أصبح أكثر حريّة في الخلط بين الحاجب والرموش، بين حلب ولندن، الموت والحياة، وأنّه في مرّة تحدّث عن الحبّ كما لو كان يتحدّث عن الحسرة. تابع شافيل مخبرًا، أنّه في مرّة من المرّات دخل إلى محلّ للقمار ولم يكن يعرف ما الذي سوف يقامر عليه، فوجد على الشاشة سباقًا للكلاب على وشك البدء، فراهن على كلب، كان وجهه يشبه وجهًا لكلب آخر مفقود رآه في إعلان، ففسّر بأن وجوده هنا لا بدّ أن يكون لغاية ما، فربّما هرب من صاحبه ليحقّق طموحًا تملّكه لفترة طويلة.

 بدأ السباق، وانطلق الكلب بسرعة إلكترون، كما لو أنّه فيديو ليوتيوبر تافه على السوشيال ميديا، لكن قبل الوصول إلى خطّ النهاية، انحرف عن الطريق متوجّهًا إلى جانب المضمار، وجلس مفسحًا المجال لزملائه بالتقدّم - هذا قرار لا يأخذه أيّ مشهور- لقد بدا الكلب وكأنه معترضًا على شيء ما، ربّما لا يعرفه بعد، لكنّه تصرّف بثقة العارف وصفّق له الجميع. 

وصل الجميع إلى المطعم، جلسوا؛ اثنان مقابل اثنين، شافيل مقابل صديقة كلامنتين التي جلست بدورها مقابل زوج صديقتها. أوّل دقيقتين تفحّص كلّ واحد الآخر كما لو كانوا في غرفة تحقيق، على الرغم من أنّ اليوم كان مشمسًا، لكنّ الضوء الخافت في المطعم يجعلك غير متأكّد من ذلك... الزوجة كانت تلبس ربطة عنق عريضة بشكل ساخر، كما لو أنّها خرجت من أحد أفلام وودي آلان. فكّر شافيل في أنّه لو أُتيح لكلامنتين أن تعبّر عن رأيها في لباس صديقتها لقالت أن ربطة عنقها تشير إلى أنها تريد أن تقول إنّها مرتبطة وسعيدة بذلك، ودليل ارتباطي هو قضيب زوجي المعلّق على عنقي. كان زوجها يلبس ثيابًا رياضيّة بلون أسود باهت، يحرّك رأسه بشكل سريع من اليمين إلى اليسار، كما لو أنّه بطّة تائهة في شارع وتبحث عن طريق العودة إلى النهر.

 طلبت كلامنتين وجبة بمكوّنات محدّدة من البهار والخضار على الطريقة التي قرأتها في رواية بروست "البحث عن الزمن المفقود" أخبرتها صديقتها: "عليكِ الكفّ عن الالتزام بطقوس بروست، على الأقلّ في الأوقات التي تكونين فيها داخل مطعم؛ تحلّي ببعض من روح كامو العبثيّة". ردّت كلامنتين "ربّما"، وأضاف شافيل "ربّما من الخطأ الاعتماد على كامو الذي استطاع رؤية كلّ شيء قادم، ولم يستطع رؤية الشجرة التي أودت بحياته" ثم طلب وجبة دجاج تقليدية.

 علّقت كلامنتين "خيار سيّء" أجابها شافيل أنه عندما غادر بلده، اعتقد أنّ كلّ شيء سيكون جديدًا، كما لو أنّ الأشياء تُمحى عندما تبتعد عنها، لكنّ الأمر كان خلاف ذلك، لأنّ حال الرؤوس مثل حال المتاحف، هناك دائمًا بقايا من الماضي، ولهذا السبب، يختار دائمًا أقرب شيء لما اعتاد تناوله في بلده.

 طلبت الزوجة وجبةً لها، وأُخرى لزوجها الذي بقي شاردًا في صورة حساء كما لو أنه غرق فيها، عندما رفع رأسه، قال بصوت محتدّ "اللعنة"، وصمت  كما لو أنّه قال كلّ ما لديه، ولكي تتدارك زوجته الموقف قالت بطريقة ساخرة "لديه قدرة مستمرّة على تدمير اللحظات الهادئة، وربّما احببته لهذا السبب، فهو ينفعل بطريقة أراها لغزًا" وأضافت أنّ زوجها يتغيّر في حضور الغرباء، حتى لو كان شخصًا واحدًا. أجاب زوجها "ربّما يكون كلامك صحيحًا، لكنّ اللعنة التي أطلقتها للتوّ، كانت لكامو الذي لا أستطيع تحمّله، وأفضّل قصص الخيال العلميّ على كل نظريّاته الفلسفيّة، لأنّ الخيال العلميّ يتيح على الأقلّ فرصة ولو صغيرة، لتخيّل طريقة للهرب من الأرض". ضحكت كلامنتين بطريقة رنّانة تشبه النهيق وقالت: "متى سوف تهرب مجددًا؟" همس شافيل لها "أعتقد أنّ هذه الضحكة سوف تتسبّب في طردنا أو موت الناس من حولنا".

 وصل الطعام. وبينما كان النادل يضع الصحون على الطاولة، تابع شافيل حواره محاولًا تلطيف الأجواء قليلًا، فسأل عن أحوال العمل. أجاب الزوج "أعتقد أن العمل بخير". قاطعته الزوجة: "ربّما... ربّما هو جيد في عمله لكنّني أعتقد أنّه أبعد ما يكون عن حبّ العمل، إنّه يرغب بالهروب منه، ولكنّه متفانٍ فيه بسبب شعوره بالخجل من صاحب العمل". اكتسى وجه الزوج بلون أحمر كما لو كان يحترق. أراد شافيل الرحيل لأنّ العشاء بدأ في تلك اللحظة بالتحوّل إلى كارثة طبيعيّة، شأنها شأن فيضان وانفجار بركان مجتمعين، لكن، طالما أنّ الكوارث الطبيعيّة لا مهرب منها، فقد قرّر البقاء. نظر إلى صحنه ثمّ أغمض عينيه قليلًا بعد أول لقمة - هذه عادة بدأ يقوم بها بعد أن يئِس من مذاق الطعام في لندن - فربّما بالانتقال من الحالة البصريّة إلى العمق الذهنيّ، قد يسترجع بعضًا من مذاق الطعام في حلب.  عندما فتح عينيه، رأى الزوج سارحًا في صحنه، فكّر شافيل بأنّ الزوج يبدو كما لو أنّه شخصيّة في فيلم مبتذل لا يرغب أصحابه في صرف الكثير من النقود عليه، فاختاروا هذا الشخص كممثل للقيام بدور بطة، تلك التي تنتقل لتمثيل مشهد رجل بائس أشبه بشمس تحترق في لحظة غروب ما تلبث أن تنطفئ.

 لم يأكل الزوج أيّ شيء من صحنه... لحظات قليلة وقال "سفرة دايمة" وتوجّه إلى الحمام. وعندما لبث هناك لفترة أكثر من اللازم، توجّهت الزوجة للبحث عنه، ثم عادت وأخبرت شافيل وكلامنتين أنّه يمكن أن يكون قد هرب مجددًا، ولا بدّ لها من الرحيل الآن على أمل اللحاق به. وأصرّت أن تدفع ثمن العشاء كنوع من التعويض. أخبرتها كلامنتين بأن السبب ربما يكون بشافيل وبدلته الرسمية المتكلّفة، وأضافت أن الرجال كلّهم يسيئون التصرف. تابعت كلامنتين حديثها كما لو أنها ترغب في مواساة صديقتها وتوضيح أنّ مصيرهنّ واحد.

عندما أصبحوا خارج المطعم، ذهب كلّ منهم في اتّجاه.

 

 

رونيار إبراهيم

 

 

 

كاتب سوريّ مُقيم في لندن.

 

 

 

 

التعليقات